ثُمَّ قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: [والعقل يعلم أن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معصوم في خبره عن الله - تعالى- لا يزيد عليه الخطأ، فيجب عليه التسليم له والانقياد لأمره] هذه مقدمة ونتيجة بدهية، ما دام مُقراً بأن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معصوم عن الخطأ في البلاغ عن الله، فيجب عليه الانقياد، والإذعان، والتسليم دون أي منازعة، أو معارضة.
وأتى بمثال يوضح ذلك فَيَقُولُ: بناءً عَلَى القاعدة التي قد شرحناها مراراً والتي تقول: إنه إذا تعارض العقل والنقل، فإننا نقدم العقل، ويقدمون العقل لأنهم قالوا: إذا قدمنا النقل فإن ذلك قدح في العقل؛ لأن العقل هو الوسيلة والدليل الذي عرفنا به صحة النقل، وهذا الدليل عكسناه عليهم في المرة الماضية.
فنقول: قد عملنا بالاضطرار -أي: ما يعلم بالتفكير بدون أدلة- لو أن رجلاً قال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هذا القُرْآن الذي جئت به، وهذه الحكمة "السنة" التي جئت بها، قد علمنا بعقولنا أن فيها ما يخالف ما استقر في عقولنا، وفيها ما يعارضه، ولو أننا قدمنا كلامك الذي تقوله عن الله أو من عندك عَلَى عقولنا، لكان هذا قدحاً في العقل وقدحاً فيما تأتي به، فالأولى لنا أيها الرَّسُول أن نقدم ما تقرر في عقولنا عَلَى ما جئتنا به من عند الله، فكان هذا هو تقديم العقل عَلَى النقل، فلو قال هذا أحد للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو لأي رَسُول من الرسل لَمَا كَانَ مؤمناً أبداً.
وكذا لو قال أحد من الناس: أنا آمنت بك أيها النبي، وصدقت أن كلامك صحيح، لكن لا أقر لك بذلك كاملاً حتى أعرضه عَلَى إمامي، أو عَلَى فلان من الناس، أو أفكر فيه وأعرضه عَلَى عقلي فليس هذا بمؤمن.
ولهذا قلنا: إن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رَسُول الله والكلام نوعين: خبر وإنشاء، فلو قال الإِنسَان: أشهد أن لا إله إلا الله، فالصحيح: أن هذا إنشاء، وبهذا نعرف الفرق بين الإيمان وبين الشهادة في حقيقتها، وبين الدعاوى الباطلة، فالشهادة إنشاء، أي: أقر بذلك وألتزم بكل لوازمها، وبكل ما يترتب عليها.
أما مجرد الخبر، فمن الممكن أن تجد إنساناً يهودياً أو نصرانياً، يقول لك: أنا قرأت القُرْآن وقرأت السنة فوجدت أن هذا دين من عند الله فإننا لا نقول: إن هذا قد أسلم، فإن هناك فرقاً بينه وبين شخص آخر يقول: أنا أشهد أن محمداً رَسُول الله، وأنا مؤمن بالقرآن، ومن شدة إذعانه يقول: أي أمر جَاءَ في القرآن، أو أي خبر، فأنا مستعد أن أتلقى الأخبار بالتصديق، وأتلقى الأوامر بالتنفيذ، وأتلقى النواهي بالوقوف والارتداع. فهذا هو المؤمن، وهذا هو الذي يحكم بإسلامه وبدخوله في دين الله، والأدلة عَلَى ذلك كثيرة في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.